أن يعلن مسؤول لبناني كبير أنّ رئيس الحكومة سعد الحريري "محتجز"، خبرٌ يمكن أن يمرّ من دون الكثير من الضجّة، طالما أنّ المسؤول لم يكشف عن اسمه، وطالما أنّه يتماهى بشكلٍ أو بآخر مع الموقف الرسمي الذي يمثّله رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، والذي يعبّر عن مخاوف من هذا النوع منذ اليوم الأول من خلال تريّثه في قبول استقالة الحريري حتى معرفة ظروفها وملابساتها منه شخصيًا.
ولكن أن يصدر عن كتلة "المستقبل" بعد اجتماعٍ استثنائي لها بيانٌ مقتضبٌ بعنوانٍ عريض وجريء هو المطالبة بعودة "الزعيم الوطني" سعد الحريري إلى لبنان، فموقفٌ له معانيه ودلالاته الكبيرة، وإن حرصت الكتلة قبل وبعد هذا البيان على توضيح "مقاصدها" غير الموجّهة بتاتًا ضدّ السعودية، ولو أنّ الرجل الذي تطالب الكتلة بعودته موجودٌ في الرياض كما يعلم الجميع منذ استقالته المثيرة للجدل.
ولأنّ موقف كتلة "المستقبل" أتى بعد موقفٍ آخر لوزير الداخلية نهاد المشنوق انطوى على انتقاداتٍ مبطنة للسعودية أيضًا برفضه منطق "المبايعات" على أساس أنّ اللبنانيين ليسوا "قطيع غنم"، فإنّ علامات استفهامٍ كثيرة من الطراز الثقيل تُطرَح، فما الذي يحصل داخل التيار "الأزرق"؟ وهل نشهد انتفاضة "مستقبليّة" ضدّ السعودية؟!
رسالتان حاسمتان
في بيان "المستقبل" المقتضب الذي قرأه رئيس الكتلة فؤاد السنيورة شخصيًا، بخلاف العادة، كان تأكيد على أهمية عودة "رئيس الحكومة اللبنانية الزعيم الوطني سعد الحريري ورئيس تيار المستقبل"، بوصفها "ضرورة لاستعادة الاعتبار والاحترام الى التوازن الداخلي والخارجي للبنان وذلك في إطار الاحترام الكامل للشرعية اللبنانية المتمثلة بالدستور واتفاق الطائف وللاحترام للشرعيتين العربية والدولية". وإذا كانت المفردات المعتمدة في هذه العبارة مختارة بعناية من "رئيس الحكومة اللبنانية" من دون أيّ إشارة للاستقالة إلى "الزعامة الوطنية"، فإنّ البيان يحرص في الوقت عينه على تأكيد "الوقوف مع الحريري ووراء قيادته قلباً وقالباً، ومواكبته في كل ما يقرره، تحت أي ظرف من الظروف"، ما يعبّر عن دعمٍ كاملٍ للحريري، أياً كان القرار الذي يتّخذه بإرادته الحُرّة.
انطلاقاً من هذا البيان، يمكن الحديث عن رسالتين واضحتين لا لبس فيهما أراد "المستقبليّون" إيصالهما لمن يعنيه الأمر، أولهما المطالبة بعودة الحريري، بعدما بات وضعه على كل شفة ولسان، ولم يعد من الممكن السكوت عنه، خصوصًا أنّ الحديث عن "احتجاز" الحريري لم يعد محض شائعات، يمكن اتهام الفريق الآخر بالوقوف وراءها، بل أصبح يُناقَش في الأروقة السياسية الدولية، ويتصدّر عناوين الإعلام الغربيّ، إضافة إلى بروز الكثير من المؤشّرات الغامضة التي لا يستطيع أحد تكذيبها، والتي تدلّ على أنّ الحريري ليس في أحسن حال، وما صمته رغم هذا الكمّ من الشائعات التي تطاله على المستوى الشخصيّ سوى الدليل الفاقع على ذلك.
أما الرسالة الثانية التي ينطوي عليها بيان الكتلة "الزرقاء"، ولعلّها الأهمّ، فتتمثل بتأكيد "زعامة" الحريري الوطنيّة، أي أنّها باتت تتخطّى الإطار الطائفيّ الضيّق، وذلك لقطع الطريق أمام ما يُحكى عن استبداله بشقيقه بهاء، خصوصًا بعد التعاطف الكبير الذي استطاع "الشيخ سعد" تحقيقه في أيام "محنته"، والذي يفترض توظيفه لصالح "التيار" وحيثيّته الشعبية، لا ضربه بعرض الحائط. وإذا كان الوزير المشنوق قارب هذه النقطة بالتحديد بصراحةٍ وجرأةٍ كبيرتين، فإنّ الأكيد أنّ أحدًا من قيادات الصفّ الأول وحتى الثاني في "التيّار" ليس مستعدًا لقبول "زعيم" جديد يسقط عليه بالمظلّة، كما أنّ حصول هذا الأمر سيلحق الضرر الفادح بـ"المستقبل" الذي لن يكون يسيرًا عليه الرد على الاتهامات بـ"التبعية" و"الخضوع"، خصوصًا بعد ما حصل على خط قضية الحريري، والتي ترقى بالنسبة لكثيرين لمستوى "الفضيحة".
لا انتفاضة
هكذا، بدا مفاجئًا بالنسبة لمعظم اللبنانيين بيان "كتلة المستقبل" والمكتب السياسي لتيار "المستقبل"، خصوصًا أنّه شكّل "قفزة نوعية" في مقاربة التيّار الذي يترأسه الحريري لاستقالة الأخير بعد سلسلة مواقف "تبريرية" صدرت منذ يوم السبت الماضي، ما أوحى وكأنّ "التيار" بدأ يستوعب الصدمة التي أحدثتها الاستقالة "الحريريّة"، ويضعها في سياقٍ عام مختلف كليًا عن قراءات اللحظة الأولى التي تبنّت مضمون البيان الذي تلاه الحريري المصوّب نحو "حزب الله" وإيران، رغم أنّ أحدًا من المحيطين به لم يكن في جوّ الخطوة الملتبسة.
لكن، وفي مقابل الرسالتين "المستقبليتين" النوعيتين وغير المسبوقتين، كان حرصٌ واضحٌ من قبل القيادة "المستقبلية" على إبقاء "التمرّد" مضبوطًاً بسقفٍ واضحٍ ألا وهو الالتزام بالسياسة السعودية والانضواء تحتها، وهو ما يمكن أن يشكّل رسالة ثالثة، بأنّ الانتفاضة، إن وُجِدت، فهي لن تتخطى الحدود الشكلية المرتبطة بشخص الحريري وموقعه، وبالتالي ضرورة استمرار مسيرته السياسية منعًا لأيّ إخلالٍ بالتوازن الحاصل في البلد، وهي لا يمكن أن تصل لحدود "العصيان" الذي يقول "المستقبليون" أنه لن ينفع لبنان بشيء، بل سيُلحِق الضرر به أكثر ممّا هو حاصل حاليًا، وسيقود البلاد إلى المجهول الذي يسعى كلّ الوسطاء لتفاديه حاليًا.
وانطلاقاً من هذه الرؤية بالتحديد، هناك داخل التيّار "الأزرق" من يعتقد أنّ التصعيد السياسي اليوم ضدّ السعودية ليس مناسبًا، لأنّه سيؤدّي إلى الخروج عن العباءة السعودية، في وقتٍ لن يكون صعبًا على المملكة إيجاد البدائل، سواء خارج التيّار أو حتى داخله، وهو الذي لطالما عُرف بتعدّد الأجنحة فيه وتفرّعها، رغم أنّ الحريري استطاع "ضبط" هذه الفوضى داخل التنظيم إلى حدّ بعيد في الآونة الأخيرة. ويرى هؤلاء أنّ المطلوب بذل جهودٍ حقيقيّة لإقناع القيادة السعودية بأنّ مواجهة "حزب الله" والمشروع الإيرانيّ ككلّ تتطلّب عودة الحريري أولاً، ليقود هو هذه المواجهة، وينفّذ السياسة التي يريدها السعوديّون، بعيدًا عن "المسرحية" الحاصلة اليوم والتي تضرّ أكثر ممّا تنفع.
ماذا بعد؟
في النهاية، توحي كلّ المؤشّرات أنّ "انقلاباً" حقيقياً تشهده البلاد هذه الأيام، بدءًا من استقالة الحريري الغامضة والملتبسة، إلى بيان كتلة "المستقبل" الجريء وغير المسبوق، مرورًا بكلّ المواقف التي أفرزت تموضعًا سياسيًا مختلفًا عن كلّ ما هو سائد.
لكن، ماذا بعد؟ إلى أين تتّجه البلاد؟ أيّ سيناريو وأي إخراجٍ يمكن تصوّره للمرحلة المقبلة؟ وهل نصل إلى "انتفاضة" لبنانية وطنية حقيقية تكفّ يد الخارج عنه لمرّة واحدة وأخيرة؟!.